الفطرة بناء خاص في الخلقة يدفع الإنسان إلى إدراك ومعرفة الحقائق وعبادة الله، وإلى الخير والحسن والقيم الإنسانية، وإلى درجة من الميول الإيمانية والأخلاقية.
لقد وضع الله هذه الخاصية بلطفه الخاص أمانة في طينة البشر حتى تكون أرضية للكمالات والفضائل، وأما فعليتها وظهورها الكامل فيتطلب الهداية والتعليم والتربية.
ومع أنّ الفطرة تشبه الغريزة من حيث أنها أمر ذاتي ولكنها أعلى منها، فالغريزة حركة طبيعية في نطاق العلاقات المادية وأمر مشترك بين الإنسان وسائر ذوات الأرواح، بينما نطاق الفطرة هو الأبعاد المعنوية وما وراء الطبيعة، ولهذا كانت مختصة بالإنسان وأساس ظهور كمالاته المتعالية.
والفطرة هي أقرب الطرق لمعرفة الله تعالى والحصول على المعارف الإلهية، وأما إثباتها وأحكامها وآثارها، فهي كالعطش، لا تحتاج إلى استدلال وبرهان.
فالإحساس بمبدأ الوجود، والعشق للكمال المطلق، وسكون النفس في عبادة الله والحاجة الدائمة والكدح اللامحدود للإنسان، واستمرار روح العبودية في طول تأريخ حياة الإنسان، والتوجه إلى مبدأ الغيب حين انقطاع الأسباب الظاهرية، والتعبير عن المعاني والمقاصد الفنية في الدين، والآثار الدينية، والرسوم وأناشيد العشق العرفانية التي كانت على رأس قائمة الذوق والأدب والعرفان.. كلّ ذلك شاهد صادق على الفطرة الباحثة عن الله والعواطف الإيمانية عند الإنسان.. ويتبعها الفطرة الأخلاقية التي لا تتوجه ولا تهتدي إلا بالميول الفطرية عند الإنسان..
وبعبارة أخرى، الفطرة، أو الحس الديني، نوع جذب معنوي بين قلب الإنسان وإحساساته من جهة وأساس الوجود والمبدأ الأعلى والكمال المطلق من جهة ثانية، وذلك كالجذب والانجذاب القائم بين الأجرام والأجسام.
والمعرفة الفطرية معرفة حضورية وشهودية في مقابل المعرفة العلمية التي هي حصولية، والمعرفة الفطرية أقرب الطرق إلى الله تعالى، والرغبة في عبادته وفي عمل الخير والفضائل التي أودعها الله تعالى، وضعها الله تعالى في ذات وطينة الإنسان، والإنسان يريدها ويطلبها بفطرته.
إذن فنور الفطرة قد هدانا إلى أن نعرف أنّ قلوب جميع أبناء البشر من أهالي أقصى المعمورة وسكان البوادي والغابات إلى شعوب الدول المتحضرة في العالم ابتداءً بالطبيعيين والماديين وانتهاءً بأهل الملل والنحل، تتوجه قلوبهم بالفطرة إلى الكمال الذي لا نقص فيه. فيعشقون الكمال الذي لا عيب فيه ولا كمال بعده، والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز عن شيء، والحياة التي لا موت فيها، أي أنّ (الكمال المطلق) هو معشوق الجميع. إنّ جميع الكائنات والعائلة البشرية يقولون بلسان فصيح واحد وبقلب واحد: إننا نعشق الكمال المطلق. فهل هناك في جميع سلسلة الكائنات أو في عالم التصور والخيال وفي كلّ التجويزات العقلية الاعتبارية كائن مطلق الكمال ومطلق الجمال سوى الله تقدست أسماؤه، مبدأ العالم جلت عظمته؟ وهل الجميل على الإطلاق الذي لا نقص فيه إلا ذلك المحبوب المطلق؟
في القرآن الكريم جعل الله تعالى الدين بتمامه ولو بنحو الإجمال أمانة مودعة في الفطرة، ولهذا يقول تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم/ 30)، وقال الرسول (ص): "كلّ إنسان يولد على الفطرة حتى يأتي أبواه فيخرجاه عنها".
وبهذا يكون للإيمان بالمبدأ تعالى وبالمعاد والوحي والنبوّة وعبودية الله تعالى ودعائه والتأدب بالأخلاق والفضائل جذور في فطرة الإنسان، والذي يقوم به المربّون الربانيون هو إرشاد الإنسان وتوجيهه نحو فطرته وإيصاله إلى الظهور الكامل.
قال الإمام عليّ (ع): "فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه بما خصهم به من وحيه وجعلهم حجة له على خلقه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته".
إنّ عبادة الله -عزّ وجلّ- التي هي الأصل الأساسي والأوّل في الدِّين أمر فطري، وجاء الأنبياء ليقدموا الله الواحد القهار بصفاته الجلالية والجمالية، ويعرفوه للإنسان كما هو، وينقلوا الإنسان الباحث عن الله من عالم الاشتباه في المصداق والتطبيق إلى عالم الإثبات بالدليل والبرهان.
إنّ حب الخلود والبقاء فطري عند الإنسان وقد شخّص المربّون الربانيون كيف وأين ومتى يكون هذا الخلود.
وإنّ طلب الكمال وحب الجمال فطري في قلب الإنسان، ولكن الأنبياء يقومون بتوجيهه نحو الجهة الصحيحة وذلك بإيصاله فعلياً إلى عالم ما وراء الطبيعة وجعله شاملاً يطال الكمال والجمال المطلق الذي هو مبدأ كلّ كمال وجمال.
إنّ حبّ النوع وإرادة العدالة فطريان أيضاً، وقد بيّن المربون الإلهيون أيضاً حدودها ومفاهيمها.
كذلك الكلام في سائر الأصول الاعتقادية والعملية والأخلاقية والاجتماعية فإنّها كلّها موجودة في الفطرة ومتجذرة فيها، ولكن بصورة أولية.
ولكن الفطرة هذه قد تنقلب رأساً على عقب وتصاب بالخمول والركود بسبب الغفلة وتراكم غبار المعاصي. ولذلك احتاجت هداية الفطرة إلى المراقبة والتربية. وهذا ليس ميسوراً وممكناً إلا عن طريق العمل الصالح والتأدب بآداب الشريعة والابتعاد عن أسباب الغفلة.
وهكذا، يمكن لعوامل التحذير أن تكون كالنار تحت الرماد، تلتهب وتشتعل، كما قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (سورة لقمان/ 32).
قال رجل للإمام الصادق (ع): يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو، فقال له (ع): يا عبد الله هل ركبت السفينة قط؟ قال نعم، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلق قلبك هنالك شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال الإمام الصادق (ع): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.
ولا يمكن التغاضي عن الاهتمام بالفطرة، فهي ضرورة لا يمكن تجاهلها، فإنّ لها دوراً في طريق التربية والأخلاق، فالعنصر الأساس في التربية والذي هو نمو الاستعدادات العالية للإنسان إنما يجب البحث عنه في الفطرة، ووظيفة المربي في الحقيقة هو معرفة هذه الاستعدادات وتهيئة أرضية نموها وتفتح براعمها، ولكن بهذا النحو الذي أراده الله، يعنى (الصيرورة) في استقامة الكمال المطلوب، وليس بمعنى (الكينونة) في وضع موجود وبأهداف يريدها الآخرون وليس الله تعالى، وبالإدراك الصحيح للفطرة يمكن إنجاز وإتمام تربية الإنسان.
وهكذا يتم الانتفاع والاستفادة من الكنوز الكامنة في الخلق والذخائر الطبيعية المتفرعة على المعرفة الدقيقة للفطرة وكشف أسرارها.
وبناءً على ذلك، إذا لم تكن الاستعدادات الفطرية موجودة أو لم تعرف، فلن يكون للتربية مفهوم وهدف محدد وواضح، بل سوف تكون خاضعة حينئذٍ لأي نوع من التفسير والتوجيه.
والفطرة التي نحن بصددها هي من مختصات العلماء الإسلاميين والمفكرين الإلهيين الملمين بمعرفة الإنسان وبالتربية الدينية والذين يهيئون للإنسان سلفاً الأرضية الفطرية الصالحة، ويعتبرون أنّ تكامل الفطرة ونضجها وبلوغها نتائجها المرجوة منها إنما يكون في ظل التربية والتعليم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق